الاغتراب والتكيف
ALIENATION + ADAPTATION
إن لمصطلح الاغتراب، استخدامات متنوعة في التراث اللغوي والفكري والفلسفي والاجتماعي.
وأحب أن أوضح في البداية أن الاغتراب يختلف عن الغربة التي تعني انتقال الفرد مـــــــن بلده ووطنه وأهله إلى آخر يختلف عنه.
والاغتراب ورد في (قاموس وبستر) بمعنى الانفصال العقلي المتمثل في الكائن المغترب وغير السليم. ولعل من أجمع التعريفات لمعنى الاغتراب هو انه:
1ـ الشعور بالغربة أو الغرابة.
2ـ انعدام العلاقات الحميمة مع الناس.
3ـ في الوجودية : انفصال الفرد عن الأنا الواقعية بسبب الانغماس في التجديدات وضرورة التطابق مع رغبات الآخرين ومطالب المؤسسات الاجتماعية (فاخر عاقل ـ ص 22)
وعرفة روسو : أن تغترب يعني أن تعطي أو أن تبيع، فالإنسان الذي يصبح عبدا لآخـــــــــر لا يعطي ذاته وإنما يبيعها على الأقل من أجل بقاء حياته، وهذا التعريف يصور تمايزا بين مفهوم العطاء(طواعية) ، وبين البيع (مراد وهبة ص 99)
ويرى أفلاطون أن الاغتراب هو التأمل الحق بحالة الكائن الذي فقد وعيه بذاته فصار الآخر مغترباً عنه، وبهذا يشير الاغتراب عند أفلاطون لحالة التجاوز.
ومما لا شك فيه بان معرفة تاريخ الشيء تزيد في فهمه وإيضاحه وجلائه فقد اخبرنا( كونت ) وهو بصدد ذلك بأنه ( لا تتيسر معرفة معنى من المعاني معرفه جيده إلا بالإطلاع على تاريخ هذا المعنى ) .وكما هو معروف فان مصطلح الاغتراب في معناه ومفهومه الحاضر لم يظهر في قاموس لغتنا فجأة فالمتبع لتاريخ هذا المصطلح وهذا المعنى يجده في كتابات الكثير من الفلاسفة والعلماء الاجتماعيين الحديثين من أمثال ((ماركس ، ماكس فيبر ، دوركايم ، ميرتون) ).
غير أن إجماع الباحثين يكاد ينعقد على أن هيجل (1770-1831) هو أول من استخدم في فلسفته مصطلح الاغتراب "Alienation " استخداما منهجيا مقصودا ومفصلا .
بل ونظّر له في كتابه الموسوم (فينومينولوجيا الروح عام 1807). واستخدمه قبله وبعده كثيرين من أدباء وفلاسفة ومتخصصين في مختلف العلوم السلوكية والاجتماعية، وشكلت هذه الاستخدامات تراثا معرفيا ضخما في دراسة الاغتراب.
وهكذا فقد كان هيجل أول من صاغ مصطلح الاغتراب وأعطاه معنا مميزا عن غيره من العلماء وقدر لمصطلح الاغتراب أن يصبح من أكثر المصطلحات التي تتعامل معها لغـــة المشاكـــــــل الاجتماعية في الوقت الحاضر وأصبح الاغتراب كمشكله اجتماعيه مدارا لبحــث اشهر العلماء والباحثين المحدثين حتى ذهب احدهم إلى القول بأنه ( لو وجه علماء اللغة أجهزتهم لرصد ما يكتبه الباحثون والنقاد والفلاسفة في العلوم الاجتماعية والانسانيه في عصرنا الـــحاضر،فإنني لأراهن على أن كلمة الاغتراب "Alienation ".سوف تحظى بالاولويه من حـــيــث (تردادها) وبناء على ذلك فإننا نستنتج أن معظم العلماء الاجتماعيين والفلاسفة المحدثين قـــد أولـــــــــوا للاغتراب اهتماما خاصا وأعطوه معاني وأسباب مميزه لها عن غيرهــــا عنـــــد العلمــــــــــاء الاجتماعيين والفلاسفة الآخرين. وكما أسلفنا فأن من الأهمية بمكان لتعميق فهم معنى الاغتـراب أن نتعرض لهذا المعنى ومدلولاته عند اهم العلماء الذين تحدثوا عنه :-
(1) . هيجل / كان أول من تحدث عن الاغتراب وعرفنا به واعتبره ( اغتراب روحي ) ينشأ عن انفصال الذات عن المجتمع واعتبر أن هناك وجهان للاغتراب .
أ. الوجه السلبي – الذي يؤدي للعزلة .
ب. الوجه الايجابي – الذي يؤدي للإبداع .
وهكذا يتمحور معنى الاغتراب حول شعور الفرد بأنه غريب عن ذاته، أو عن مجتمعه الذي يحيا فيه.
(2) . ماركس / جاء ماركس وعارض هيجل في مفهوم الاغتراب واعتبره ( اغتراب مادي ) ينشأ نتيجة لاغتراب العامل عن وسائل الإنتاج الأساسية . (العامل ، الآلة ، صاحب العمل )
ويقول ماركس إن الإنسان الحديث قد هرب من روابط العصور الوسطى ولكنه لم يكن حراً لأن يقيم حياة بمعنى كامل تقوم على العقل والحب ومن ثم كان خضوع الإنسان الحديث للدولة ومجاراته الاتوماتية المغتربة.
والاغتراب عند ماركس له وجهان أيضا :
(أ) الوجه السلبي – الذي يؤدي للعزلة.
(ب)الوجه الايجابي – الذي يؤدي للصراع الطبقي وبالتالي التغير.
ففي نظريته (الحتمية الاقتصادية ) يؤكد ماركس بأن الحتمية الاقتصادية تذهب إلى أن العامل الاقتصادي هو المحدد الأساسي لبناء المجتمع وتطوره – (تيما شيف نقولا نظرية علم الاجتماع )
(3) . ماكس فيبر / وسع مفهوم الاغتراب واعتبره ( اغتراب قيمي ) له وجهان أيضا :-
(أ) . المادي – وضرب مثلا عن البيروقراطية بالعمل ومشكلاتها .
(ب) . روحي – وضرب مثلا عن اغتراب الجندي في الحرب .
(4) . إميل دوركايم / اعتبر دوركايم الاغتراب مربوط بالانحراف الاجتماعي (Anomy).
( (فالاغتراب = الانحراف ) والاغتراب من وجهه نظره يحصل نتيجة اضطراب العقل الجمعي بشقيه :
(أ). تفكك العقل الجمعي .
(ب). القوه الفوقية للعقل الجمعي Over conformity .
(5). أما المذهب الصوفي في الإسلام فانه يرى الإنسان أنه في الأصل كان في الجنة ثم نزل للحياة الدنيا ويحن للعودة إلى الآخرة فوجوده حالياً هو اغتراب.
** ويتبين من معالجتنا للمرحلة السابقة للاغتراب أنه مرحلة تفتح عندما تتعارض اختيارات المرء مع المعايير الثقافية، وعندما تصل إلى هذه المرحلة يكون قد بلغ مرحلة الرفض الثقافي وهنا يكون المرء مهيئاً للدخول في مرحلة الاغتراب التي تؤدي إلى العزلة الاجتماعية...فيصبح الإنسان هامشيا في مجتمعه ويصبح فاراً وهارباً من المواجهة والالتزام، وتصبح الحياة بالنسبة له بلا معنى وغير محتملة وبعضهم يصل به الاغتراب إلى درجة الانتحار (بحسب دوركايم) لأنه يرى ذلك حلاً، أما الأقل اغتراباً فإنه يصبح متبلدا وغير مبالٍ.
**وهكذا نجد أن مصطلح الاغتراب بمدلولاته الحاضرة هي لغة حديثه صاغها هيجل لقاموس الحياة البشرية وعمل العلماء والفلاسفة بعده على بلورتها وتوسيع مدلولاتها ومفهومها غير أننا نلاحظ أن جميع العلماء الذين تحثوا عن الاغتراب قبل ميرتون اخذوا الاغتراب ودرسوا معانيه وأسبابه ولكنه أضاف شيئا ليكمل دراسة الاغتراب ألا وهو دراسته لنتائج الاغتراب واخبرنا أن النتيجة الحتمية للاغتراب هي التكيف ، وأعطانا عدة إشكال من أشكال التكيف تشمل النواحي السلبية والايجابية .
فقد أكد ميرتون في نظرتيه عن الاغتراب والتكيف – بأن التكيف هو نتيجة حتمية للاغتراب ويشمل التكيف من وجهة نظره ( الايجابية والسلبية ) أشكالا متدرجة منها :-
(أ) الانعزال isolationism (وهو عملية الهروب الجزئي من الجوانب التي لا يستطيع المرء التكيف معها أو الانتماء لها .
(ب)الانسحاب with drawl-وهو عملية الهرب الكلي وعدم الانتماء من واقع المجتمع وقيمه .
(ج)الثورة Revolutions –وهو عملية الثورة على الواقع بقصد تغيره .
وفي دراسة سابقه للكاتب لعينات مختارة من مجتمعنا الفلسطيني فقد أكدت بعض نتائج الدراسة أن :
(1) 24% من طلاب الجامعات يعانون من الاغتراب في العلاقات الاجتماعية .
(2) 23%من طلاب الجامعات يعانون من الاغتراب في الاتجاهات الفكرية والعقائدية .
(3) 17% من طلاب الجامعات يعانون من الاغتراب عن روح الجماعة نتيجة اضطرابها .
كذلك وجد أن :-
(1) 50% من أفراد المجتمع يتجهون اتجاها ثوريا بقصد التغير (التكيف ).
(2) 22% من أفراد المجتمع يتجهون نحو الهروب الجزئي من بعض قيم المجتمع نتيجة عدم التكيف معها .
(3) 6% من أفراد المجتمع يتجهون نحو الهروب الكلي من واقع وقيم المجتمع نتيجة عدم الانتماء لها .
** ان الاغتراب من حيث المبدأ نتاج الإنسان، فمن خلال العمل الجماعي يغيّر هذا الإنسان الطبيعة من حوله وأيضا ينشئ المجتمع، ورغم أن البشر بهذا المعنى هم الذين يصنعون العالم الاجتماعي ثم الطبيعي ـ جزئيا ـ الذي يعيشون فيه، فان هذا العالم يصبح فيما بعد غريبا عنهم لا يملكونه وإنما تملكه وتملك الإنسان معه أشياء أخرى صنعها الإنسان بنفسه ثم استقلت عنه وسيطرت عليه وعلى العالم، منها النقود والتنظيمات والآليات التي قد لا يفهمها الإنسان نفسه، والمؤسسات التي تخضع لآليات شبه مستقلة لا لإرادات الأفراد، وهكذا يحدث الاغتراب الذي لا سبيل لهزيمته إلا بمزيد من المعرفة المتحررة المبنية على الإدراك الشامل للطبيعة والمجتمع لكي تتيح له الانغماس في ممارسة الحياة مثل العمل المبدع والحب والتذوق لمختلف الفنون وإنتاجها بناء على الإدراك الشامل وتوسيعا له وتعميقا لأبعاده المختلفة.